-->

الردّامون ..... أطفال خلف قضبان الجهل



يراوغ موكب السيّارات الفارهة، الحفريّات التي خلّفها قصف طائرات النظام وعوامل الزمن، على الطريق الإسفلتي الواصل بين مدينتي جرابلس والباب في ريف حلب الشمالي، يسير الموكب ببطء شديد، تتقدّمه ثلاث سيّارات لفصائل الجيش الحر، وتسير خلفه ثلاثة أخرى، وقد دجّجت بالسلاح الخفيف والمتوسّط، بينما ينظر الأهالي إلى الموكب البهي الذي يمرّ من أمام بيوتهم الطينيّة المتهالكة، المتناثرة على جانبي الطريق، وقد بدا أنّ عبارات قد طمست من على جدرانها، قيل إنّها شعارات كتبها تنظيم الدولة الإسلاميّة قبل طردهم من المنطقة إثر عمليّة درع الفرات، فيما بقيت شعارات أخرى دون طمس، وكأنّها تُركت كشاهد تاريخي على مرحلة سوداء من تاريخ الثورة السوريّة، بينما انتشرت على طول اطريق حواجز تابعة للفصائل المسلّحة المعارضة، وكلّ حاجز يرفع راية مختلفة، وكأنّما كل قرية من تلك القرى قد شكّلت جيشها المستقل.

على جانبي الطريق من مدينة جرابلس وحتّى مدينة الباب وقف أطفال لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشر عاما، وقد رفع البعض أيديهم اليمنى بإشارة النصر، فيما رفع البعض الآخر إشارة التوحيد، وكأنّهم كانوا ينتظرون مرور الموكب لاستقباله، كان الموقف سيمرّ مرور الكرام لولا سؤالي عن سبب حمل الأطفال بأيديهم اليسرى علباً معدنيّة تسمّى باللهجة المحليّة "تنكة"، ليأتي الجواب صادماً أنّ هذه العلب المعدنيّة يضعون فيها الرمل والحجارة ويقومون بردم الحفر على الطريق الإسفلتي، وأنّ إشارة النصر تعني 200 ليرة وإشارة التوحيد تعني 100 ليرة، وهذه بمثابة أجور يتقاضونها من السيّارات المارّة على الطريق.

لم يكن بمقدوري الوقوف مع هؤلا الأطفال خلال سير الموكب الذي كان يقلّ شخصيّات عشائريّة، فهم في عجلة من أمرهم، فقد تأخّروا عن موعد الوليمة الفاخرة التي دعوا إليها من قبل أحد شيوخ العشائر في مدينة الباب، إلا أنّي قرّرت العودة لمحاورة هؤلاء الأطفال في وقت لاحق –وهذا ما جرى-، فكيف يكون ذلك الوضع الكارثي وأنا العارف بعدد المنظّمات اللا منتهي، ممّن يقولون إنّهم يعملون على تأهيل الأطفال ورعايتهم في الداخل السوري.

يقول أحد الأطفال واسمه "عبد الكريم" نخرج منذ الصباح الباكر ولا نعود حتّى المساء، أنا اليوم استطعت الحصول على 500 ليرة من السيّارات المارّة، أكثر مايدفع لنا هم سيارات الشحن، أنا وأخي نعطي كل ما نجمعه في اليوم لأهلي، فأحياناً يشتروا الطحين لأجل الخبز، أو يشتروا لوازم المنزل من محروقات وطعام.

ويتابع "العمل شاق، ولكن أهلي يقولون إنه يجب أن نعمل لنعيش، فنحن أبناء القرى لايوجد لدينا أيّ مصدر دخل، سوى ما أجنيه أنا وأخي من ردم الحفر على الطريق، وما يجلبع أخيي الذي يعمل حمّالاً في مستودع للمواد الغذائيّة في "جرابلس".

"خالد" أيضاً طفل يعمل في ذات المجال، لكنّه أقلّ حديثاً من الآخرين، إلا أنّه كما يبدوا أعطى لنفسه منصب رئيس الورشة، كيف لا وهو الذي انهى دراسة الصفّ الثالث الابتدائي عندما احتلّ تنظيم الدولة مناطقهم وأغلقوا جميع المدارس، إنّه الأعلى شهادة بينهم، ويستحقذ هذا المنصب بجدارة.

"لا مدارس في هذه القرية أو القرى المحيطة بنا، فلم يعد أحد يهتمّ لأمر الدراسة" يقول خالد، ويتابع "حتى لو وجدت المدارس، فلن يذهب إليها الكثير، فالجميع هنا يعمل من أجل العيش، ولا وقت لدينا للدراسة" ثمّ يضيف "الجميع يعمل هنا، وإن لم نعمل، فلن نجد ثمن الطعام، سوف نموت من الجوع، أنا أشتري لأهلي بما أجنيه خبزاً وبعض الخضار".

يقول تقرير صادر عن الحكومة السوريّة المؤقّتة إنّ عدد طلّاب مرحلة التعليم الأساسي المسجّلين في المدارس الخارجة عن سيطرة النظام هو (349634) موزعين على تسع مديريّات التربية تضم 34 مجمّعاً تربويّاً تضمّ (51025) موظفًا بين كادر تدريسي وإداري، فيما بلغ عدد الطلاب الحاصلين على شهادة التعليم الأساسي 110800 طالباً.

ويرصد التقرير الذي يقول إنّ ماورد فيه من بيانات هو إحصائيّات حتّى نهاية عام 2017 أنّ عدد المدارس في المناطق المحررة المتضررة من قصف النظام وحلفائه بلغ 2840 مدرسة، فيما يقدر عدد المدارس المستفيدة من دعم المنظمات كترميم وصيانة وتجهيزات ومعدات 700 مدرسة.

كلّ تلك الأرقام والمنظّمات اللا متناهية لم تستطع تعليم أطفال تمتدّ معاناتهم مابين مدينتي الباب وجرابلس، وعلى مايبدوا أنذ هؤلاء الأطفال قرّروا اقتلاع شوكهم بأيديهم، وشكّلوا مجلساً محليّا متنقّلا هم عماده، وعلى مايبدوا أيضاً أن خدمات تمهيد الطرق وترميمها، لاتحتاج إلّا لبعض العلب المعدنيّة وإشارة النصر التي يرفعها هؤلاء الأطفال، وربّما تلك الإشارة تحمل معنى آخر إلى جانب ماقيل لي انّها "200" ليرة سوريّة، معنى يقول أنّهم سينتصرون على ظلم من ظلمهم، ليس من النظام السوري وتنظيم "داعش" فقط، بل ايضاً من أبناء ثورتهم الذين صدحوا بمعاناتهم في المحافل الدولية وأمام لجان حقوق الإنسان والمنظّمات المختصّة بالطفولة، دون أن يفلح ذلك في الحفاظ على أبسط حقوقهم، حقّي اللعب والتعليم.

زمان الوصل

الردّامون ..... أطفال خلف قضبان الجهل

No comments:



Contact Form

Name

Email *

Message *