الصفويون ينتحرون أمام أسوار الموصل (1156هـ/ 1743 )
في سنة 1156هـ / 1743 شن الافشار الصفويون هجوما واسعا وكاسحا على العراق بجيش جرار قوامه مائة وسبعين ألف جندي ، بقيادة الشاه نفسه ( نادر شاه ).
وعبرت هذه الجحافل الجرارة الحدود أرض العراق من جهة مندلي وشهرزور، وتقدمت باتجاه محور كركوك – أربيل ، ثم واصلت الزحف نحو مدينة الموصل ، وكان الشاه يريد السيطرة عليها لتحقيق هدف مزدوج : فمن ناحية تأديب هذه المدينة الأبية لدورها الفعال في محاربة الصفويين الغزاة وفي حماية مدينة بغداد وباقي العراق ، ومن جهة أخرى لقطع خطوط المواصلات والإمداد بين القيادة العثمانية في تركيا ، وبين مدينة بغداد - والتي كانت هي الهدف الرئيسي والأخير من وراء هذه الحملة العسكرية الضخمة – ومن وراء معظم الحملات الصفوية السابقة على العراق
ولاغترار الشاه بما تحت يده من جنود وإمكانات وقوة ضاربة ، ولما كانت تعانيه الدولية العثمانية من ضعف حينئذ ، ولغرض الإرهاب والحرب النفسية وكسر معنويات المدافعين ، بعث نادر شاه ، وهو في طريق تقدمه نحو المواصل ، بخطاب يحذر فيه أهاليها من مغبة المقاومة ، ويدعوهم إلى الاستسلام .
وبعد اجتماع شعبي حماسي كبير نظمه أمراء وعلماء المدينة، أجاب أهالي الموصل الحدباء بخطاب شديد اللهجة، جاء فيه:
" فما وعيدكم عندنا إلا كصرير باب ، أو كما طن في لوح الهجير ذباب ، أفرأيتم أن القصاب يقهره كثرة الغنم ، أو الأسد الغشمشم يدهشه تراكم النعم ، كلا ستعلمون ثم كلا ستعلمون الرقاع بالقراع ، ونحن الأسود الضارية ، والسباع الكواسر العادية ، أسيافنا صقيلة ، وسطوتنا ثقيلة ، وحلومنا رزينة ، وقلوبنا كالحديد متينة ، وبلدتنا – بحمد الله حصينة .. فلا سمعا ولا طاعة وأهلا بالسعادة والشهادة، هذه الساعة، فما بيننا إلا ما صنع الحداد من سيوف حداد ورماح مداد "
وفي أواخر رجب 1156هـ / منتصف أيلول 1743 دخل الشاه وقواته - بعد معارك ضارية إلى قرية ( يارمجة ) شرقي دجلة على بعد 5 كم من مدينة الموصل وعسكر فيها ، وأمر بنصب المعابر على دجلة ، أعلى وأسفل الموصل ، وأرسل قسما من قواته إلى القسم الغربي من النهر ، كي يكملوا الالتفاف حول المدينة .
وبعد أن أحاط جيش الغزاة بالمدينة تماما إحاطة السوار بالمعصم ، بدؤوا بإقامة المتاريس ، حيث شيدوا في مواجهة أبراج المدينة ، أثنى عشر برجا لحماية مدافعهم التي كانت تتكون من ( 160) مدفعا ثقيلا و( 230) مدفعا من مدافع الهاون . وفي غضون ذلك بعث الشاه رسولا إلى والي المدينة حسين باشا الجليلي ، محذرا إياه من بطشه – على حد زعمه – فجاءه الجواب :
" وما بيننا وبينك إلا السيف ، وإذا أرسلت سفيرا آخر نرجعه إليك بلا رأس "
وفي أعقاب هذا الرد القوي الساخر المزلزل ، قام الشاه بصب جام غضبه على المدينة . فقد فتحت مدافعه نيرانها مرة واحدة في 6شعبان 1156هـ / 25 أيلول 1743م، ولمدة ثلاثة أيام بلياليها دون توقف، ومن كل اتجاه، ظلت فيها قنابل المدفعية الإيرانية تتساقط على المدينة كالمطر، وليلا تتناثر كالنجوم.
ولكن ورغم عدم التكافؤ في موازين القوة بين المهاجمين والمدافعين ، ورغم ضراوة هذا الهجوم الوحشي الحاقد ، إلا أنه لم يستطع أن يزعزع عزيمة المقاومة الباسلة وصمودها ، وعجز الأفشار الصفويون من إحداث ثغرة في السور ينفذون منها إلى المدينة ، لأن المقاومين الأبطال الذين كانوا متسلحين بالإيمان بالشجاعة ، كانوا يتمكنون من إصلاح أي تصدع تحدثه القذائف في السور ، ويسدونه بأجسادهم الفتية – إن اقتضى الأمر- ويحولون – بالتالي - دون نفاذ الإيرانيين إلى المدينة .
وهذا الفشل الذريع جعل نادر شاه المعروف بعناده وإصراره على تحقيق أهدافه، ينقل مقر قيادته من ( يارمجة ) إلى موقع قريب من المدينة ، ليشرف بنفسه على سير القتال ، فأمر بقصف مدفعي شديد لبرج ( باش طابية ) في شمال الموصل ، حيث مقر الحكومة ، فتعالت من البرج أصوات التكبير، وردت مدفعيته بإطلاق النار على المهاجمين ، بيد أن غزارة القصف أدت إلى تهدم جانب من البرج ، فبذل المجاهدون المستبسلون مجهودات عظيمة لإقامة البرج من جديد ، وواجهت القوات الافشارية الصفوية ضربات رادعة وقوية وموجعة عندما حاولت النفاذ إلى المدينة ، وتكبدت المزيد من الخسائر والقتلى .
وتوالى هدير المدافع خمسة أيام أخرى دون انقطاع - إنما أيضا دون جدوى- فأمر الشاه بقطع المياه عن المدينة بتحويل إحدى شعبتي نهر دجلة - وهو مورد أهل الموصل الرئيسي - فباءت هذه المحاولة بالفشل أيضا ، فقد استعاض الأهالي المحاصرون عن ذلك بشرب مياه الآبار دون أن يؤثر ذلك في صحة عزائمهم .
وبعد حصار للموصل دام أكثر من أربعين يوما، ثبت لنادر شاة أن المدينة عصية على السقوط بيده ويئس منها، لا سيما بعد نفاد مؤنه ، وتكبد قواته خسائر فادحة ، فأنسحب في 4رمضان 1156هـ / 22 تشرين الأول 1743، خاسئا مدحورا بقواته إلى الوسط ، ولكن بعد أن كانت تلك القوات قد أفرغت حقدها وعاثت فسادا ، ونشرت الخراب والدمار في قرى الموصل.
وكان انتحار جيش نادر شاة أمام أسوار مدينة الموصل سببا في فشل الحملة في الوسط والجنوب، وكانت هذه هي آخر الحملات التي تشنها الدولة الشيعية في إيران ضد العراق حتى جاء الأمريكيون عام 2003 ليقدموه لهم على طبقٍ من فضةٍ.
No comments: