لماذا نهضت اليابان و تخلفنا نحن ؟
لقد اصطدم الغزو الغربي بثلاث أنواع من الشعوب :
شعوب لم تكن لديها حضارة قادرة على المقاومة ، و لم يكن الاستعمار الغربي بحاجة إلى استمرار هذه الشعوب ، فكان أسلوبه في مواجهتها هو الإبادة الشاملة ، أما من بقي بعد الذبح و الحرق ، فقد تم فناؤه في الغزاة ، و تكوَّن جيل جديد من الخلاسيين أو المولَّدين ، يتكلم نفس اللغة ، و يعتنق نفس الدين ، و لا يكشفه إلا لونه ، و تخلفه ، و البؤس الذي فُرض عليه بصفة أبدية ، ذلك ما تم في شعوب العالم الجديد.
و شعوب كان الاستعمار الغربي بحاجة إليها ، و لم تكن لديها حضارة ، و لا مقومات حضارية تُمكنها من مقاومة الغزو الاستعماري ، فاكتفى الاستعمار باستئصال قسم منها ، و باستئناس القسم الآخر ، و إلحاقه بمزرعته ، و تلقين هذا القسم الداجن لغته و أحيانا دينه ، و بالذات في المرحلة الأخيرة كإجراء وقائي لمواجهة تطورات الزمن المحتومة ، مع إبقاء حاجز أقوى من حائط الصين بين مجتمع السيد ، الإنسان الأبيض ، و مجتمع الكائنات غير البيضاء ، هكذا جرى الحال بصفة أساسية في أفريقيا.
أما الحالة الثالثة فهي حالة الشعوب التي كان لها تراث حضاري و مؤسسات حضارية ، رغم تخلفها ، لكنها تُشكل عنصر رفض و مقاومة للوجود للغربي ، هذه الشعوب كانت إبادتها مستحيلة و غير مرغوب فيها ؛ لأن استثمارها هو جوهر الاستعمار و غايته ، ( كيَدٍ عاملة ، رخيصة ، و مُستهلكة لمتجات الدولة الاستعمارية) وكان تدجينها بأسلوب استئناس الحيوان _ أي بالسوط و قطعة السكر _ مستحيلاً.
هذه الشعوب عندما فوجئت بتفوق الغرب ، الذي عاشت قروناً على احتقار شأنه ، و الاستخفاف به ، إلى أن روعتها مدفعية نابليون في نهاية القرن الثامن عشر في الطرف الغربي من آسيا ، بينما أيقظت مدفعية الكومادور " ماتيو بيري " الأمريكي ، الطرف الشرقي ( اليابان) في عام 1853 ، فكان السؤال : كيف نواجه مدفعية الغرب؟
و بينما أخطأت آسيا و أفريقيا الجواب ، عرفته اليابان وحدها ، " كان الهدف الرئيسي هو بناء قوة اليابان العسكرية ، و لكن لتحقيق ذلك كان على اليابان أن تنتج كل المنتجات الحديثة ، و أن تمتلك كل المعرفة العلمية المتاحة للغرب " .
أدرك الشرق كله تلك الحقيقة التي وعتها النخبة اليابانية في عصر " الميجي " ( أو الحكومة المستنيرة) ، و هي أنه " لكي تبقى اليابان فيجب أن تصبح في مستوى العصر " ، كل الشرق وعى هذه الحقيقة ، و كان أكثر الجميع وعياً بها هم أولئك الذين وعوا خطورة التفوق الغربي .
و لكن اليابان وحدها عرفت الإجابة الصحيحة : التحديث لا التغريب ، و لكي يتحقق التحديث لا بد من رفض التغريب ، بل نزعم أنه بقدر الإصرار و النجاح في رفض التغريب ، يكون النجاح في تحقيق التحديث.
تمسكت اليابان بدينها ، و أصبح المعبد أو الهيكل جزءاً أساسيًّا في كل مصنع أو باخرة ، و تمسكت بنظامها الملكي ، و استمرت حتى الحرب العالمية الثانية تعامل إمبراطورها كإله! يُحظر النظر إليه من أعلى! و تؤمن الجماهير ، و تسلك النخبة على أساس أنه ينحدر من الشمس!
و بينما كان يجري التحديث بأعلى معدل عرفته دولة إلى النصف الثلني للقرن العشرين ، كان الياباني مُحتفظاً بحياته العائلية و الاجتماعية و تقاليده و تراثه ، يرتدي القفطان ( الكيمونو) و القبقاب ، و يأكل على الطبلية بالعصي ، مُحتقراً الجنس الأبيض مُقتنعاً بإصرار متزايد أنه خير أمة على ظهر الأرض ، مُحتفلاً بأعياده القومية ، عيد تكريم الإمبراطور ، أو عيد البنات ( 3 مارس) ؛ حيث تجري في كل بيت مراسيم احترام و توقير لتماثيل صغيرة على هيئة عائلة الإمبراطور! و عيد الأسلاف ، في يوليو ، حيث يجري استقبال أرواح الأسلاف و تكريمها.
ظل المسرح الياباني يُقدم روايات التراث و بنفس الأسلوب منذ قرون ، و ظلت المرأة في مكانها التقليدي و دورها الأساسي ، و ظلت على احترامها للزوج وخلع حذائه بيديها ، و اليابان هو البلد الشرقي الوحيد الذي لم تظهر فيه حركة " تتحرير المرأة " لذلك أصبحت مجتمعا حرا و حافظت على استقلالها ؛ لأنها عرفت أن المرأة لا تحرر وحدها ، و أنه لا حرية لامرأة و لا لرجل في مجتمع ضعيف متخلف فاقد الاستقلال ، أو مُهدد بفقده في أية لحظة.
و بعكس ما بُذل من جهد في بلادنا لتعليمنا استخدام الشوكة و السكين أو آداب المائدة ، لم يحدث قط أن حاول اليابانيون الأكل على الطريقة الغربية ؛ فالأمة التي تُلقن أنها بحاجة إلى تعلم آداب المائدة من عدوها هي أمة فقدت احترامها لنفسها ، و يستحيل أن تنجز أي تفوق.
أعده وكتبه \ محمد فاتح القسطنطينية
المصدر \ ودخلت الخيل الأزهر
ليست هناك تعليقات: