دولة السلاجقة - الجزء الثالث -
نستكمل واياكم بعون الله سلسلة دولة السلاجقة مع هذا الجزء ماقبل الاخير
موقعة ملاذكرد
قام ألب أرسلان بحملة كبيرة ضد الأقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشه نحو جنوب أذربيجان واتجه غربًا لفتح بلاد الكرج والمناطق المطلة على بلاد البيزنطيين، وكان سكان الكرج يكثرون من الإغارة على أذربيجان فأصبحوا مصدر قلق لسكان المنطقة، وانضم إليه وهو في مدينة مرند في أذربيجان أحد أمراء التركمان ويدعى طغتكين، وكان دائم الإغارة على تلك المنطقة عارفًا بمسالكها.
بعد ذلك أجتاز الجيش السلجوقي نهر الرس –نهر يخرج من قاليقلا ويمر بأران- في طريقة إلى بلاد الكرج مما أضطر ملك الكرج أن يهادن ألب أرسلان وصالحه على دفع الجزية، بعد ذلك أصبح الطريق مفتوحًا أمام السلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد السيطرة بعد أن سيطروا على قلب أرمينية، كان ذلك تحديًا لبيزنطة وأدرك أن ألب أرسلان يصبغ غزوه للبلاد بصبغة الجهاد الديني وأن الحرب بين المسلمين والبيزنطيين أمرًا لا مفر منه .
الخروج للقتال
خرج روماونس ملك الروم في جمع كثير من الروم والروس والكرج والفرنجة وغيرهم من الشعوب النصرانية، حتى قدر هذا الجمع بثلاثمائة ألف جندي، أعدهم الإمبراطور لملاقاة السلطان السلجوقي، الذي ما إن علم باقتراب الروم ومن معهم حتى استعد للأمر، وكان في قلة من أصحابه لا تقارن بعدد الروم ومن معهم من الجنود، وكان الجيش السلجوقي يبلغ عدده قرابة خمسة عشر ألفًا، ولم يكن لديه وقت لاستدعاء مدد من المناطق التابعة له، وقال ألب أرسلان قولته المشهورة: "أنا أحتسب عند الله نفسي، وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل الطيور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي ويومي خير من أمسي"
هجم السلطان السلجوقي بمن معه على مقدمة الأعداء وكان فيها عشرون ألفًا معظمهم من الروس، فأحرز المسلمون عليهم انتصارًا عظيمًا وتمكنوا من أسر معظم قوادهم.
عرض الصلح ولكن!
أرسل السلطان ألب أرسلان وفدًا من قبله إلى إمبراطور الروم وعرض عليه المصالحة ولكنه تكبر وطغى ولم يقبل العرض، وقال: هيهات!! لا هدنة إلا ببذل الري- أي بدخول مدينة الري السلجوقية- مما أغضب السلطان السلجوقي، وقال له إمامه أبو النصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون فيها الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين .
اندلاع المعركة:
أعد المسلمون العدة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشين يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463هـ فلما كان وقت الصلاة يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ودعا الله تعالى وقال : نجن مع القوم تحت الناقص - يقصد قلة العدد- وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة يدعى فيها لنا والمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيدًا إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحبًا فما هاهنا سلطان يأمر ولا عسكر يؤمر فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغاز معكم، فمن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة، ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة، فقالوا: مهما فعلت تبعناك وأعناك عليه، فبادر ولبس البياض وتحنط استعدادًا للموت وقال: إن قتلت فهذا كفني، ثم وقع الزحف بين الطرفين، وحمل المسلمون على الأعداء، ونصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم مقتله عظيمة وأسروا منهم جموعًا كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه .
قصة أسر إمبراطور الروم
إن أحد غلمان سعد الدولة جوهر – آثين- هو الذي أسر الإمبراطور رومانوس، فأراد قتله، فقال له خادم مع الملك : لا تقتله فإنه الملك، وكان هذا الغلام قد عرضه سعد الدولة جواهر- أحد أمراء ألب أرسلان- على الوزير نظام الملك فرده استحقارًا له، فأثنى عليه جواهر، فقال نظام الملك مازحًا: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرًا، ومن العجيب أن هذا الغلام هو الذي أسر الإمبراطور .
أخبر ألب أرسلان بنبأ أسر الإمبراطور فأمر بإحضاره، فلما أحضر ضربه السلطان ثلاث مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ وأفعل ما تريد، فقال السلطان : ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ قال: أفعل القبيح، قال السلطان: ما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخيرة بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبًا عنك، قال: ما عزمت على غير هذا، ففداه السلطان بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم في أي وقت يطلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم .
أما الروم فبادروا وملكوا آخر، فلما قرب أرمانوس شعر بزوال ملكه، فلبس الصوف وتصوف، وترهب ثم جمع ما وصلت يده إليه نحو ثلاثمائة ألف دينار، وبعث بها واعتذر وقيل: إنه غلب على ثغور الأرمن .
أما أهم الدروس المستفادة من هذه الموقعة هو الإخلاص لله تعالى والاستعداد للموت في سبيله فرغم الفرق الكبير بين عدد المسلمين والبيزنطيين إلا أن المسلمين استطاعوا الانتصار على البيزنطيين وليس الأمر عدد ولا عتاد ولكنه نصر من الله عز وجل عندما كانت النية خالصة لله عز وجل.
ومن الأمور التي يجب الإشارة إليها في هذه الموقعة هو دور العلماء في تثبيت القادة والجنود وتذكيرهم بالله واليوم الآخر، فعندما يصلح حال العلماء يصلح أحوال الرعية وبالتالي يصلح حال الأمة كلها.
ولهذا نجد أن موقعة ملاذكرد كان له ا أثر بالغ فقد انتشر السلاجقة في آسيا الصغرى وضموا إلى ديار الإسلام مساحة تزيد عن 400ألف كيلومتر، كما تعتبر هذه الموقعة نقطة تحول في التاريخ الإسلامي فلأول مرة يقع الإمبراطور نفسه أسير في أيدي المسلمين، وتعد هذه الموقعة أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية إذ أصبحت الأراضي البيزنطية تحت رحمة السلاجقة ولذلك يسميها بعض المؤرخين باسم الملحمة الكبرى .
وفاة ألب أرسلان:
توفى في جمادي الآخرة سنة 465هـ وقيل أنه توفى عن عمر أربعين سنة أو واحد وأربعين سنة .
ملكشاه (465-485هـ/ 1072-1092م)
كان ملكشاه كما وصفه ابن خلكان: "أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل" وكان يجلس للمظالم بنفسه ويقضي بين الناس بالقسطاس المستقيم كما كان بابه مفتوحًا لكل قاصد بحيث يستطيع أي شخص من أفراد شعبه أن يتصل به في سهولة ويسر لرفع ظلامته أو التعبير عما لحقه من اضطهاد، وكان السبل في أيامه آمنه، والقوافل تسير من بلاد ما وراء النهر إلى أقصى بلاد الشام في أمن وطمأنينة" .
خلف ألب أرسلان ابنه ملكشاه وتولى الحكم وهو في السابعة عشر أو الثامنة عشر من حكمه، وقد حدثت في بداية عهده عدة ثورات ولكنه استطاع القضاء عليها، وكان مما يميز ملكشاه أنه كان مولعًا بالفلك وشجع دراسة العلوم الدينية والعقلية بمعونة وزيره المشهور نظام الملك الذي أسس المدرستين العظميتين اللتين تعرفان باسمه في بغداد ونيسابور، وتعرف كل منهما باسم المدرسة النظامية كما أسس المدرسة الحنفية ببغداد .
مناصرته للمظلومين
إن انتشار العدل من الأمور الهامة فبدونه تنهار الأمم، وقد انتبه ملوك السلاجقة لهذا الأمر
وجعلوه أساس دولتهم، ومثال على ذلك ما فعله ملكشاه عندما اشتكى إليه فلاح أن غلمانَا له أخذوا له حمل بطيخ هو رأس ماله، فقال: اليوم أرد عليك حملك، وبالفعل قام وأعطى الرجل حمله .
وأيضًا من الأمور التي تشير إلى عدله أنه أسقط مره بعض المكوس، فقال له رجل من المستوفين: يا سلطان العالم إن هذا يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر، فقال: "ويحك إن المال مال الله والعباد عبيده والبلاد بلاده وإنما يبقى هذا لي عند الله ومن نازعني في هذا ضربت عنقه" .
وتوفى السلطان ملكشاه سنة 485هـ/ 1092م .
عهد التفكك والضعف وانهيار الدولة السلجوقية
بعد وفاة السلطان ملكشاه تفككت الدولة السلجوقية وبدأت عوامل الضعف والانهيار تدب في أوصالها بين أبنائه وإخوته وأحفاده، فضعفت بالتالي سيطرة الدولة على مختلف أقاليمها، ومن الأسباب التي أدت إلى هذا الضعف تنافس الأمراء على عرش السلطنة، الأمر الذي أحدث انقسامًا كبيرًا وبصفة خاصة بين بركياروق الابن الأكبر لملكشاه وأخيه الأصغر محمود، وانقسم السلاجقة إلى فريقين متنازعين كل منهما يجاهر بالعداء إلى الأخر .
وقد دب الضعف في أوصال دولة السلاجقة ففي عام ( 536هـ/ 1141م ) انهزم السلطان سنجر، آخر السلاطين السلاجقة العظام أمام القراخطائيين، كما تجددت الخلافات السلجوقية الأسرية في كل مكان من خراسان والعراق في عام ( 541هـ/ 1146م).
ولما توفى السلطان مسعود في عام ( 547هـ/ 1152م ) فقدت الدولة السلجوقية في العراق ركنًا كبيرًا، فأصابها الوهن وأخذت بالتداعي وعمتها الاضطرابات، مما أدى إلى تقلص النفوذ السلجوقي في العرق شيئًا فشيئًا حتى زال في النهاية.
ازدادت أوضاع دولة سلاجقة العراق تدهورًا بعد وفاة محمد الثاني في عام ( 554هـ/ 1159م) .
زالت دولة السلاجقة العظام في عام ( 552هـ/ 1157م) بمقتل السلطان سنجر على أيدي الغز في حين زالت دولة سلاجقة العراق في عام ( 590هـ/1194م ) بمقتل السلطان طغرل الثالث على يد علاء الدين تكش خوارزمشاه .
وعند الحديث عن تلك الفترة التي شهدت تدهور أوضاع السلاجقة لابد أن نشير إلا أن السلاجقة انقسموا إلى عدة فروع رئيسية وهي:
1- السلاجقة العظام:
ويطلق على طغرلبك، وألب أرسلان، وملكشاه، وهم الجديرين بهذا اللقب وهناك ثلاثة آخرون يضعهم البعض في هذا التصنيف وهم ركن الدين أبو المظفر بركياروق، وغياث الدين أبو شجاع محمد، ومعز الدين سنجر أحمد إلا أن هؤلاء الثلاثة خاضوا كثيرًا من الحروب ضد أبناء بيتهم وعانت الدولة في عهدهم من عوامل الفرقة والتمزق .
2- سلاجقة العراق:
ويطلق على أمراء السلاجقة الذين سيطروا على العراق والري وهمذان وكردستان وأستمر نفوذهم من سنة 511هـ / 1117م إلى سنة 590هـ /1194م حيث تمكن الخوارزميون من القضاء عليهم.
3- سلاجقة كرمان:
وقد بدأ نفوذهم في الجنوب الشرقي لفارس وفي بعض مناطق الوسط سنة 433هـ /1042م واستمر حتى سنة 583هـ/ 1187م حين قضى التركمان على سلطانهم هناك.
4- سلاجقة الشام:
وكان نفوذهم في المناطق التي استولى عليها السلاجقة من الفاطميين أو الروم في الجزيرة والشام وانتهى نفوذهم سنة 511هـ/ 1117م على أيدي أتابكة الشام والجزيرة.
5- سلاجقة الروم:
كان نفوذهم في الأراضي التي استطاع السلاجقة الاستيلاء عليها من الروم في آسيا الصغرى وأستمر نفوذهم حتى سنة 700هـ/ 1301م حين استطاع الأتراك العثمانيون القضاء عليهم .
_______________________________________________
المصادر
د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص78.
السابق نفسه ص 79.
د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص79-80.
حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/ 27.
السابق نفسه 4/27.
د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص80.
د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص80-81.
السابق نفسه ص84.
وفيات الأعيان 4/371-374.
السابق نفسه 4/372.
حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/30-31.
د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص88.
ابن كثير: البداية والنهاية 16/132.
حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/36.
السابق نفسه ص131.
د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص245-246.
د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص245-246.
محمد قباني: الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط ص114.
السابق نفسه ص114-115.
_______________________________________________
ليست هناك تعليقات: